فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء السابع

سورة الأنعام

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام، لأن الإذن فيها- كما يأتي- مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً، لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه، لأنه المتوحد بالإلهية، لا شريك له، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره، فدل ذلك على إحاطة علمه، وسيأتي في سورة طه البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات، وذلك عين مقصود السورة، وقد ورد من عدة طرق- كما بينتُ ذلك في كتابي «مصاعد النظر» أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح، وفي رواية‏:‏ إن نزولها كان ليلاً، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها‏.‏ وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين، وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة، وأن تعلّمه واجب على الفور لنزولها جملة، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح، ولنزولها ليلاً دليلٌ على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات، أولو الألباب أهل الخلوات، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل‏.‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ الذي بين دلائل توحيده بأنه الجامع لصفات الكمال ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي أفاض على سائر الموجودات من رحمته بالإيجاد والإعدام ما حيَّر لعمومه الأفهام، فضاقت به الأوهام ‏{‏الرحيم *‏}‏ الذي حبا أهل الإيمان بنور البصائر حتى كان الوجود ناطقاً لهم، بالإعلام بأنه الحي القيوم السلام‏.‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لله‏}‏‏.‏

لما ختم سبحانه تلك بتحميد عيسى عليه السلام لجلاله في ذلك اليوم في ذلك الجمع، ثم تحميد نفسه المقدسة بشمول الملك والقدرة، إذ الحمد هو الوصف بالجميل؛ افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة بالإخبار بأن ذلك الحمد وغيره من المحامد مستحق له استحقاقاً ثابتاً دائماً قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده سواء شكره العباد أو كفروه، لما له سبحانه وتعالى من صفات الجلال والكمال- على ما تقدمت الإشارة إليه في الفاتحة- فأتى بهذه الجملة الاسمية المفتتحة باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أنواعه الدالة على الاستغراق، إما بأن اللام له عند الجمهور، أو بأنها للجنس- كما هو مذهب الزمخشري، ويؤول إلى مذهب الجمهور، فإن الجنس إذا كان مختصاً به لم يكن فردٌ منه لغيره، إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده، فمتى وجد فرد منه لغيره كان الجنس موجوداً فيه فلم يكن الجنس مختصاً به وقد قلنا‏:‏ إنه مختص، وهذا التحميد صار بوصفه فرداً من أفراد تحميد الفاتحة تحقيقاً لكونها أمّاً، وعقبها سبحانه بالدليل الشهودي على ما ختم به تلك من الوصف بشمول القدرة بوصفه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق‏}‏‏.‏

ولما كان تعدد السماوات ظاهراً بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطوء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرر عند أهله‏:‏ جمعها فقال‏:‏ ‏{‏السماوات‏}‏ أي على علوها وإحكامها، قدمها لما تقدم قريباً ‏{‏والأرض‏}‏ أي على تحليها بالمنافع وانتظامها‏.‏

ولما كان في الجعل معنى التضمن فلا يقوم المجعول بنفسه قال‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ أي أحدث وأنشأ لمصالحكم ‏{‏الظلمات‏}‏ أي الأجرام المتكاثفة كما تقدم ‏{‏والنور *‏}‏ وجمع الأول تنبيهاً على أن طرق الشر والهلاك كثيرة تدور على الهوى، وقد تقرر بهذا ما افتتح به السورة، لأن من تفرد باختراع الأشياء كان هو المختص بجميع المحامد، ومن اختص بجميع المحامد لم يكن إله سواه ولم يكن له شريك، لا ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا غير ذلك، وما أحسن ختمها- بعد الإشارة إلى هذه المقاصد المبعدة لأن يكفر به أو يعدل به شيء- بقوله‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من أدلة وحدانيته التي لا خفاء بها عن أحد جرّد نفسه من الهوى، وعالج أدواءه بأنفع دواء، لإحاطته بجميع صفات الكمال، وزاد الأمر تقبيحاً عليهم بإبدال ما كان الأصل في الكلام من الضمير بقوله‏:‏ ‏{‏بربهم‏}‏ أي المحسن إليهم الذي لم يروا إحساناً إلا منه ‏{‏يعدلون *‏}‏ أي يجعلون غيره ممن لا يقدر على شيء معادلاً له مع معرفتهم به بأنه الذي أبدع الأشياء، كفراً لنعمته وبُعداً من رحمته، فبعضهم عدل به بعض الجواهر من خلقه من السماء كالنجوم، أو من الأرض كالأصنام، أو بعض ما ينشأ عن بعض خلقه من الأعراض وهو خلقه كالنور والظلمة، والحال أن تقلباتهما تدل بأدنى النظر على أمرين‏:‏ الأول بُعدهما عن الصلاحية للإلهية لتغيرهما ‏{‏قال لا أحب الآفلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏، والثاني قدرة خالقهما ومغيرهما على البعث لإيجاد كل منهما بعد إعدامه كما هو شأن البعث- إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، وتقديمُ الظلمة مناسب لسياق العادلين، والتعبير بثم للتنبيه على ما كان ينبغي لكل راوٍ لهذا الخلق من الإبعاد عن الكفر لبعده عن الصواب، فقد لاح أن مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله والاجتماع عليه والوفاء بعهوده بأنه سبحانه وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره، وما أنسب ذلك بختم المائدة بذكر يوم الجمع وأن لِمَلِكِه جميع الملك، وهو على كل شيء قدير، وهذه السورة أول السور الأربع المشيرة إلى جميع النعم المندرجة تحت النعم الأربع التي اشتملت عليها الفاتحة، وكل سورة منها مشيرة إلى نعمة من النعم الأربع، فقوله‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏- الآية ثم ‏{‏خلقكم من طين‏}‏ ثم

‏{‏وما من دابة في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏- الآية، متكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من آدمي وغيره المشار إليه في الفاتحة برب العالمين كما تقدم‏.‏

ولما تكفلت السور المتقدمة بالرد على مشركي العرب واليهود والنصارى مع الإشارة إلى إبطال جميع أنواع الشرك، سيق مقصود هذه السورة في أساليب متكفلة بالرد على بقية الفرق، وهم الثنوية من المجوس القائلون بإلهين اثنين وبأصلين‏:‏ النور والظلمة، ويقرون بنبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقط، والصابئة القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب، وينكرون الرسالة في الصورة البشرية، وأصحاب الروحانيات، أعني مدبرات الكواكب والأفلاك، وينتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، ويدعون أنه منهم- وقد أعاذه الله من ذلك، والسُّمْنية القائلون بإلهية الشمس، مع تأكيد الرد على الفرق المتقدمة على أن جميع فرقهم يجتمعون في اعتبار النجوم، يتبين ذلك لمن نظر في كتب فتوح بلاد الفرس في أيام الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وقال تنكلوشا البابلي في أول كتابه في أحكام الدرج الفلكية‏:‏ إن القدماء من الكسدانيين استنبطوا غوامض أسرار الفلك، وكان عندهم أجل العلوم ولم يكونوا يظهرون علم الفلك لكل الناس، بل كانوا يخفون أكثره عن عامتهم، ويعطونهم منه بمقدار ما يصلح، ويتدارسون الباقي بينهم مطوياً بين علمائهم وحكمائهم، ثم ذكر تقسيمهم درج الفلك على ثلاثمائة وستين، ثم قال‏:‏ وقسموا الدرج أقساماً كثيرة حتى قالوا‏:‏ إن بعضها ذكور وبعضها إناث، وبعضها مسعدة وبعضها منحسة، ثم قال‏:‏ كل ذلك يريدون فيه الدلالة منها على ما تدل عليه في عالمنا وعلى أحوالنا حتى جعلوا لكل درجة عالماً وخلقاً منفرداً بمدته، وأن ذلك العالم والخلق يندرسون وينشأ بعدهم غيرهم- إلى غير ذلك من الكلام الذي يرجع إلى اعتقاد تأثير النجوم بنفسها- تعالى الله عن أن يكون له شريك أو يكون له كفواً أحد‏.‏

ولما قرر سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض اللتين منهما وفيهما الأصنام والكواكب والأجرام التي عنها النور والظلمة، فثبت وجوده على ما هو عليه من الإحاطة بأوصاف الكمال التي أثبتها الحمد، فبطلت جميع مذاهبهم، فعجب منهم بكونهم يعدلون به غيره، أتبع ذلك اختصاصه بخلق هذا النوع البشري، وهو- مع ما فيه من الشواهد له بالاختصاص بالحمد والرد على المُطرِين لعيسى عليه السلام المخلوق من الطين بخلق أبيهم آدم عليه السلام- مؤكدٌ لإبطال مذهب الثنوية، وذلك أنهم يقولون‏:‏ إن النار خالق الخير، والظلمة خالقة الشر، فإذا ثبت أنه الخالق لنوع الآدميين الذين منهم الخير والشر من شيء واحد، وهو الطين الذي ولد منه المني الذي جعل منه الأعضاء المختلفة في اللون والصورة والشكل من القلب وغيره من الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف، والرباطات والأوتار، ثبت أن خالق أوصافهم من الخير والشر واحد قدير عليم، لأن توليد الصفات المختلفة من المادة المتشابهة لا يكون إلا ومبدعه واحد مختار، لا اثنان، وهو الذي خلق الأرض التي منها أصلهم، وهو الله الذي اختص بالحمد فقال‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم‏}‏ ولما كانوا يستبعدون البعث لصيرورة الأموات تراباً واختلاط تراب الكل بعضه ببعض وبتراب الأرض، فيتعذر التمييز، وكان تمييز الطين لشدة اختلاط أجزائه بالماء أعسر من تميز التراب قال‏:‏ ‏{‏من طين‏}‏ أي فميز طينة كل منكم- مع أن منكم الأسود والأبيض وغير ذلك والشديد وغيره- من طينة الآخر بعد أن جعلها ماء ثخيناً له قوة الدفق ونماها إلى حيث شاء من الكبر‏.‏

ولما كان من المعلوم أن ما كانا من شيء واحد كانت مدة بقائهما واحدة، نبه بأداة التراخي على كمال قدرته واختياره من المفاوتة بين الآجال فقال‏:‏ ‏{‏ثم قضى‏}‏ أي حكم حكماً تاماً وبتّ وأوجد ‏{‏أجلاً‏}‏ أي وقتاً مضروباً لانقضاء العمر وقطع التأخر لكل واحد منكم خيراً كان أو شريراً، قوياً كان أو ضعيفاً، من أجل يأجل أجولاً- إذا تأخر، وجعل تلك الآجال- مع كونها متفاوتة- متقاربة لا مزية لأحد منكم بصفة على آخر بصفة مغائرة لها، وفاعل ذلك لا يكون إلا واحداً فاعلاً باختيار‏.‏

ولما ذكر الأجل الأول الذي هو الإبداع من الطين إشارة إلى ما فرع منه من الآجال المتفاوتة، ذكر الأجل الآخر الجامع للكل، لأن ذكر البداية يستدعي ذكر النهاية، فقال مشيراً إلى تعظيمه بالاستئناف والتنكير‏:‏ ‏{‏وأجل‏}‏ أي عظيم ‏{‏مسمى‏}‏ أي لكم أجمعين لانقضاء البرزخ للإعادة التي هي في مجاري عاداتكم أهون من الابتداء لمجازاتكم والحكم بينكم الذي هو محط حكمته ومظهر نعمته ونقمته في وقت واحد، يتساوى فيه الكل، وستر علمه عن الكل كما أشار إليه بالتنكير، وهذا لا يصح أن يكون إلا لواحد، لا متعدد، وإلا لتباينت المقادير والإرادات وانشق كل مقدور في صنف لا يتعداه، وإلا لعلا بعضهم على بعض وانهتكت أسرار البعض بالبعض- سبحان الله وتعالى عما يصفون، وغير السياق إلى الاسمية إشارة إلى اختصاصه بعلمه وأنه ثابت لا شك فيه‏!‏ ويؤكده إثبات قوله‏:‏ ‏{‏عنده‏}‏ في هذه الجملة وحذفها من الأولى هنا وفي قوله ‏{‏ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏، وقدم المبتدأ مع تنكيره- والأصل تأخيره- إفادة لتعظيمه‏.‏

ولما كان في هذا البيان لوحدانيته وتمام قدرته لا سيما على البعث الذي هو مقصود حكمته ما يبعد معه الشك في الإعادة، أشار إليه بأداة التراخي وصيغة الافتعال فقال‏:‏ ‏{‏ثم أنتم تمترون *‏}‏ أي تكلفون أنفسكم الشك في كل من الوحدانية والإعادة التي هي أهون على مجاري عاداتكم من الابتداء بتقليد الآباء، والركون إلى مجرد الهوى والإعراض عن الأدلة التي هي أظهر من ساطع الضياء، وهذه الآية نظير آية الروم ‏{‏أولم يتفكروا في أنفسهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏ أي كيف خلقهم الله من طين، وسلط بعضهم على بعض بالظلم والعدوان، وجعل لهم آجالاً فاوت بينها وساوى في ذلك بين الأصل والفرع، فأنتج هذا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بسبب إقامة العدل في جميع ما وقع بينكم من الاختلاف كما هو شأن كل مالك في عبيده ‏{‏وأجل مسمى‏}‏- الآية‏.‏ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما بين سبحانه وتعالى حال المتقدمين وهو الصراط المستقيم، وأوضح ما يظهر الحذر من جانبي الأخذ والترك، وبين حال من تنكب عنه ممن كان قد يلمحه، وهم اليهود والنصارى، وكونهم لم يلتزموا الوفاء به وحادوا عما أنهج لهم، وانقضى أمر الفريقين، ذماً لحالهم وبياناً لنقضهم وتحذيراً للمتقين أن يصيبهم ما أصابهم، وختم ذلك ببيان حال المؤقنين في القيامة يوم ينفع الصادقين صدقهم، وقد كان انجرّ مع ذلك ذكر مشركي العرب وصممهم عن الداعي وعماهم عن الآيات، فكانوا أشبه بالبهائم منهم بالأناسي، أعقب ذلك تعالى بالإشارة إلى طائفة مالت إلى النظر والاعتبار، فلم توفق لإصابة الحق وقصرت عن الاستضاءة بأنوار الهدى‏.‏ وليسوا ممن يرجع إلى شريعة قد حرفت وغيرت، بل هم في صورة من هَمَّ، أن يهتدي بهدى الفطرة ويستدل بما بسط الله تعالى في المخلوقات فلم يمعن النظر ولم يوفق فضلَّ وهم المجوس وسائر الثنوية ممن كان قصارى أمره نسبة الفعل إلى النور والإظلام، ولم يكن تقدم لهؤلاء ذكر ولا إخبار بحال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور‏}‏ فبدأ تعالى بذكر خلق السماوات والأرض التي عنها وجد النور والظلمة، إذ الظلمة ظلال هذه الأجرام، والنور عن أجرام نيرة محمولة فيها وهي الشمس والقمر والنجوم، فكان الكلام‏:‏ الحمد لله الذي أوضح الأمر لمن اعتبر واستبصر، فعلم أن وجود النور والظلمة متوقف بحكم السببية التي شاءها تعالى على وجود أجرام السماوات والأرض وما أودع فيها، ومع بيان الأمر في ذلك حاد عنه من عمي عن الاستبصار ‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ مما يزيد هذا المعنى وضوحاً، فإنه تعالى ذكر أصلنا والمادة التي عنها أوجدنا، كما ذكر للنور والظلمة ما هو كالمادة، وهو وجود السماوات والأرض، وأشعر لفظ ‏{‏جعل‏}‏ بتوقف الوجود بحسب المشيئة على ما ذكر، وكان قد قيل‏:‏ أيّ فرق بين وجود النور والظلمة عن وجود السماوات والأرض وبين وجودكم عن الطين حتى يقع امتراء فيه عن نسبة الإيجاد إلى النور والظلمة، وهما لم يوجدا إلا بعد مادة أو سبب كما طرأ في إيجادكم‏؟‏ فالأمر في ذلك أوضح شيء ‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ ثم مرت السورة من أولها إلى آخرها منبهة على بسط الدلالات في الموجودات مع التنبيه على أن ذلك لا يصل إلى استثمار فائدته إلا من هيئ بحسب السابقة فقال تعالى‏:‏

‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والموتى يبعثهم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏، وهو- والله أعلم- من نمط ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه‏}‏، أجمل هنا ثم فسر بعد في السورة بعينها، والمراد أن من الخلق من جعله الله سامعاً مطيعاً متيقظاً معتبراً بأول وهلة، وقد أري المثال سبحانه وتعالى في ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏، فكأنه يقول لعباده المتقين‏:‏ تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم إبراهيم كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ‏!‏ فلم يعرج في أول نظره على ما سبب وجوده بيِّنٌ فيحتاج فيه إلى غرض في الكواكب والقمر والشمس، بل نظر فيما عنه صدر النور، لا في النور، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً، فتأمل كونه عليه السلام لم يطول النظر بالتفات النور، ثم كان يرجع إلى اعتبار الجرم الذي عنه النور، بل لما رأى النور عن أجرام سماوية تأمل تلك الأجرام وما قام بها من الصفات، فرأى الأفول والطلوع والانتقال والتقلب فقال‏:‏ هذا لا يليق بالربوبية لأنها صفات حدوث، ثم رقى النظر إلى القمر والشمس فرأى ذلك الحكم جارياً فيهما فحكم بأن وراءها مدبراً لها يتنزه عن الانتقال والغيبة والأفول فقال‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ وخص عليه السلام ذكر هذين لحملهما أجرام النور وسببيتهما في وجود الظلمة، ثم تأمل هذا النظر منه عليه السلام وكيف خص بالاعتبار أشرف الموجودين وأعلاهما، فكان في ذلك وجهان من الحكمة‏:‏ أحدهما علو النظر ونفوذ البصيرة في اعتبار الأشرف الذي إذا بان منه الأمر فهو فيما سواه أبين، فجمع بين قرب التناول وعلو التهدي، والوجه الثاني التناسب بين حال الناظر والمنظور فيه والتناول والجري على الفطرة العلية «وهو من قبيل أخذ نبينا صلى الله عليه وسلم اللبن حين عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، فقيل له‏:‏ اخترت الفطرة‏!‏ فكان قد قيل‏:‏ هذا النظر والاعتبار بالهام، لا نظر من أخلد إلى الأرض فعمد الضياء والظلام، وينبغي أن يعتمد في قصة إبراهيم عليه السلام في هذا الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏هذا ربي‏}‏ إنما قصد قطع حجة من عبد شيئاً من ذلك إذ كان دين قومه، فبسط لهم الاعتبار والدلالة، وأخذ يعرض ما قد تنزه قدرُه عن الميل إليه، فهو كما يقول المناظر لمن يناظره‏:‏ هب أن هذا على ما تقول‏.‏

يريد بذلك إذعان خصمه واستدعاءه للاعتبار حتى يكون غير مناظر له ما لا يعتقده، ليبني على ذلك مقصوده ليقلع خصمه وهو على يقين من أمره، فهذا ما ينبغي أن يعتمد هنا لقول يوسف عليه السلام ‏{‏ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 38‏]‏، فالعصمة قد اكتنفتهم عما يتوهمه المبطلون ويتقوله المفترون، ويشهد لما قلناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ فهذه حال من علت درجته من الذين يسمعون، فمن الخلق من جعله الله سامعاً بأول وهلة وهذا مثال شاف في ذلك، ومنهم الميت، والموتى على ضربين‏:‏ منهم من يزاح عن جهله وعمهه، ومنهم من يبقى في ظلماته ميتاً لا حراك به، يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏؛ ولما كانت السورة متضمنة جهات الاعتبار ومحركة إلى النظر ومعلنة من مجموع آيها أن المعتبر والمتأمل- وإن لم يكن متيقظاً بأول وهلة، ولا سامعاً أول محرك، ولا مستجيباً لأول سامع- قد ينتقل حاله عن جموده وغفلته إلى أن يسمع ويلحق بمن كان يتيقظ في أول وهلة؛ ناسب تحريكُ العباد وأمرهم بالنظر أن تقع الإشارة في صدر السورة إلى حالتين‏:‏ حالة السامعين لأول وهلة، وحالة السامعين في ثاني حال، فقيل‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ ولم تقع هنا إشارة إلى القسم الثالث مع العلم به، وهو الباقي على هموده وموته ممن لم يحركه زاجر ولا واعظ ولا اعتبار، ولأن هذا الضرب لو ذكر هنا لكان فيه ما يكسل من ضعفت همته، رجعت حالةُ ابتدائه، فقيل‏:‏ ‏{‏والموتى يبعثهم الله‏}‏ وأطلق ليعمل الكل على هذا البعث من الجهل والتيقظ من سِنة الغفلة كما دعا لكل إلى الله دعاء واحداً فقيل‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ثم اختلفوا في إجابة الداعي بحسب السوابق هكذا، وردّ هذا ‏{‏والموتى يبعثهم الله‏}‏ إسماعاً للكل، وفي صورة التساوي مناسبة للدعاء لتقوم الحجة على العباد، حتى إذا انبسطت الدلائل وانشرحت الصدور لتلقيها وتشبثت النفوس وتعلقت بحسب ما قدر، وفاز بالخير أهله، قال تعالى بعد آي‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ وكان قد قيل لمن انتقل عن حالة الموت فرأى قدر نعمة الله عليه بإحيائه‏:‏ هل يشبه الآن حالك النيرة- بما منحت حين اعتبرت- بحالك الجمادية‏؟‏ فاشكر ربك واضرع إليه في طلب الزيادة، واتعظ بحال من لزم حال موته فلم تغن عنه الآيات، وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏ ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه‏}‏ ‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏

‏{‏سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ وكان القسم المتقدم الذي سمع لأول وهلة لم يكن ليقع ذكره هنا من جهة قصد أن أراه قدر هذه النعمة وإنقاذ المتصف بها من حيرة شك موقعها فيما تقدم من قوله ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ فذكر هنا ما هو واقع في إراءة قدر نعمة الإنقاذ والتخليص من عمى الجهل، هذا حال من انتقل بتوفيق الله وحال من بقي على موته، أو يكون الضربان قد شملهما قوله ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ وأما الثاني وهو الذي ثبتت فيه صورة النقل فأمره صريح من الآية وأما الضرب الأول وهو السامع لأول وهلة المكفي المؤنة لواقي العصمة من طوارق الجهل والشكوك، فدخوله تحت مقتضى هذا اللفظ من حيث إن وقايته تلك أو سماعه بأول وهلة ليس من جهته ولا بما سبق أو تكلف، بل بإسداء الرحمة وتقديم النعمة، ولو أبقاه لنفسه أو وكله إليها لم يكن كذلك ‏{‏وما بكم من نعمة فمن الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، فبهذا النظر قد تكون الآية قد شملت الضروب الثلاثة وهو أولى، أما سقوط الضرب الثالث من قوله‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ فلِما تقدم- والله أعلم بما أراد؛ ولما تضمنت هذه السورة الكريمة من بسط الاعتبار وإبداء جهات النظر ما إذا تأمله المتأمل علم أن حجة الله قائمة على العباد، وأن إرسال الرسل رحمة ونعمة وفضل وإحسان، وإذا كانت الدلالات مبسوطة والموجودات مشاهدة مفصحة، ودلالة النظر من سمع وأبصار وأفئدة موجدة، فكيف يتوقف عاقل في عظيم رحمته تعالى بإرسال الرسل‏!‏ فتأكدت الحجة وتعاضدت البراهين، فلما عرف الخلق لقيام الحجة عليهم بطريقي الإصغاء إلى الداعي والاعتبار بالصنعة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل فللّه الحجة البالغة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ فيما عذر المعتذر بعد هذا‏؟‏ أتريدون كشف الغطاء ورؤية الأمر عياناً‏!‏ لو استبصرتم لحصل لكم ما منحتم، ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، ثم ختمت السورة من التسليم والتفويض بما يجدي مع قوله‏:‏ ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ وحصل من السور الأربع بيان أهل الصراط المستقيم وطبقاتهم في سلوكهم وما ينبغي لهم التزامه أو تركه، وبيان حال المتنكبين عن سلوكه من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العلم بها هو خالقه، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته‏:‏ عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهاً، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح‏:‏ لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفاً ‏{‏هو الذي‏}‏ دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين‏:‏ أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه- على تقدير تسليم الاختيار- غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات‏:‏ الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات‏:‏ ‏{‏هو الله‏}‏ أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً، وعلق بهذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏في السماوات‏}‏ لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه‏.‏

ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال‏:‏ ‏{‏وفي الأرض‏}‏ أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية‏:‏ أين الله‏؟‏ قالت‏:‏ في السماء، ومحجوج بحديث‏:‏ «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و«قد كان الله ولا شيء معه»، وحديث «ليس فوقك شيء»- رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه- والله الموفق‏.‏

ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء‏:‏ ‏{‏يعلم سركم‏}‏‏.‏

ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏وجهركم‏}‏ ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال‏:‏ ‏{‏ويعلم ما تكسبون‏}‏ فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم، فلما تظاهرت الأدلة وتظافرت الحجج وهم عنها ناكبون، وصل بذلك في جملة حالية قولَه، معرضاً عنهم إيذاناً باستحقاقهم شديد الغضب‏:‏ ‏{‏وما تأتيهم‏}‏ أي هؤلاء الذين هم أهل للإعراض عنهم، وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من آية‏}‏ أي علامة على صحة ما دعاهم إليه رسولهم صلى الله عليه وسلم، وبعض بقوله‏:‏ ‏{‏من آيات ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بنصب الأدلة وإفاضة العقول وبعث الرسول ‏{‏إلاّ كانوا عنها معرضين‏}‏ أي هذه صفتهم دائماً قصداً للعناد لئلا يلزمهم الحجة، ويجوز أن يكون ذلك معطوفاً على «يعدلون»‏.‏

ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم، وهو سبب لتعذيبهم قال‏:‏ ‏{‏فقد كذبوا‏}‏ أي أوقعوا تكذيب الصادق ‏{‏بالحق‏}‏ أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله‏.‏ لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها ‏{‏لما جآءهم‏}‏ أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره، وذلك أدل ما يكون على العناد‏.‏

ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى، وهي الاستهزاء، قال‏:‏ ‏{‏فسوف يأتيهم‏}‏ أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه ‏{‏أنباء ما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏به يستهزئون‏}‏ أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه، وهو أبعد شيء عن الهزء، والنبأ‏:‏ الخبر العظيم، وهو الذي يكون معه الجزاء، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل- كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً‏.‏

ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، فعجب من تماديهم مع ما علموا من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً‏:‏ ‏{‏ألم يروا‏}‏ ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله‏:‏ ‏{‏كم أهلكنا‏}‏‏.‏

ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ وبيَّنَ ‏{‏كم‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏من قرن‏}‏ أي جماعة مقترنين في زمان واحد، وهم أهل كل مائة سنة- كما صححه القاموس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لغلام‏:‏ «عش قرناً»، فعاش مائة‏.‏ هذا نهاية القرن، والأقرب أنه لا يتقدر، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل‏:‏ انقضى القرن، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله‏:‏ ‏{‏مكناهم‏}‏ أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال ‏{‏في الأرض‏}‏ أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة ‏{‏ما لم نمكن‏}‏ أي تمكيناً لم نجعله ‏{‏لكم‏}‏ أي نخصكم به، فالآية من الاحتباك أو شبهه، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله ‏{‏وأرسلنا السماء‏}‏ أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب ‏{‏عليهم‏}‏‏.‏ ولما كان المراد المطر، كان التقدير‏:‏ حال كونه ‏{‏مدراراً‏}‏ أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر، قالوا‏:‏ ويستوي فيه المذكر والمؤنث‏.‏

ولما ذكر نفعهم بماء السماء، وكان غير دائم، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا الأنهار تجري‏}‏ ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من تحتهم‏}‏ أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر‏.‏

ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي، فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم، فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فأهلكناهم‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏بذنوبهم‏}‏ أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم‏.‏

ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال‏:‏ ‏{‏وأنشأنا‏}‏ ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ أي فيما كانوا فيه ‏{‏قرناً‏}‏ ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله‏:‏ ‏{‏آخرين‏}‏ ولم ينقص ملكُنا شيئاً، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم، وهذه الآية مثل آية الروم ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏- الآية، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله ‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏ و‏[‏التوبة‏:‏ 70‏]‏- إلى آخر الآيتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما كانت ترجمة ما مضى‏:‏ ثم هم يعدلون بربهم غيرَه ويكذبونك فيما جئت به من الحق مع ما أوضحت عليه من الحجج ونصبت من الدلائل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم، كان المقام يقتضي أن يقول لسان الحال‏:‏ أنزل عليهم يا رب ما ينتقلون به من النظر بالفكر إلى العيان كما اقترحوا عليّ، فأخبره أنهم لا يؤمنون بذلك، بقوله عطفاً على ‏{‏وما تأتيهم من آية‏}‏ تحقيقاً له وتصويراً في جريته‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏عليك كتاباً‏}‏ أي مكتوباً من السماء ‏{‏في قرطاس‏}‏ أي ورق، إجابة لما أشار عليهم اليهود باقتراحه، ثم حقق أنه واضح الأمر، ليس بخيال ولا فيه نوع لبس بقوله‏:‏ ‏{‏فلمسوه‏}‏ أي زيادة على الرؤية‏.‏ وزاد في التحقيق والتصوير ودفع التجوز بقوله‏:‏ ‏{‏بأيديهم لقال‏}‏ وأظهر ولم يضمر تعليقاً للحكم بالوصف وتنبيهاً على أن من الموجودين من يسكت ويؤمن ولو بعد ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي حكماً بتأبد كفرهم ستراً للآيات عناداً ومكابرة، ولعله أسقطُ منهم إشارة إلى عموم دعوته، أي من العرب ومن غيرهم من أمة دعوتك ولا سيما اليهود المشار إلى تعنتهم وكذبهم بقوله ‏{‏يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا إلاّ سحر‏}‏ أي تمويه وخيال لا حقيقة له، وزادوا في الوقاحة فقالوا‏:‏ ‏{‏مبين‏}‏ أي واضح ظاهر، قال صاحب كتاب الزينة‏:‏ معنى السحر في كلام العرب التعليل بالشيء والمدافعة به والتعزير بشيء لا محصول له، يقال‏:‏ سحره- إذا علله وعزره وشبه عليه حتى لا يدري من أين يتوجه ويقلب عن وجهه، فكأن السحرة يعللون الناس بالباطل ويشبهون الباطل في صورة الحق ويقلبونه عن جهته‏.‏

ولما بين ما يترتب على الإجابة إلى ما أشار إلى أن اليهود اقترحوه من إنزال الكتاب، أخبر أنهم اقترحوا ظهور الملك لهم، وبين لوازمه، فإنهم قالوا‏:‏ لو بعث الله رسولاً لوجب كونه ملكاً ليكون أكثر علماً وأقوى قدرة وأظهر امتيازاً عن البشر، فتكون الشبهة في رسالته أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم كان الأولى تحصيله بما هو أسرع إيصالاً إليه، فقال‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا‏}‏ أي هلا ولِمَ لا ‏{‏أنزل عليه ملك‏}‏ أي من المساء ظاهراً لنا يكلمنا ونكلمه ولا يحتجب عنا‏.‏

ولما ذكر قولهم مشيراً إلى شبهتهم، نقضه بقوله‏:‏ ‏{‏ولو‏}‏ أي والحال أنا لو ‏{‏أنزلنا‏}‏ وأسقط أداة الاستعلاء لعدم الاحتياج في رد كلامهم إلى ذكرها‏.‏ ولئلا يكون فيه تسليهم لما لوحوا إليه من إنكارهم نزول الملك عليه بالوحي ‏{‏ملكاً‏}‏ أي كما اقترحوه، فلا يخلو إما أن يكون على صورته أولاً، فإن كان على صورته التي خلق عليها لم يثبتوا لرؤيته، ولو كان كذلك ‏{‏لقضي الأمر‏}‏ أي بهلاكهم، وبناه للمفعول إشارة على طريق كلام القادرين إلى غاية السرعة لسهولة الأمر وخفة مؤنته، فإنه لا ينظره أحد منهم إلاّ صعق، ولئن أعطيناهم قوة يثبتون بها لنظره ليكونن قضاءٌ للأمر وانفصال للنزاع من وجه آخر، وهو أن ذلك كشف للغطاء وفوات للإيمان بالغيب، وقد جرت عادتنا بالإهلاك عند ذلك، فإذا هم هالكون على كل من هذين التقديرين، وهو معنى قوله مهولاً لرتبته بحرف التراخي‏:‏ ‏{‏ثم لا ينظرون‏}‏ أي على حالة من هاتين، وأما إن جعلناه على صورة يستطيعون نظرها فإنا نجعله على صورة رجل، فإنها أكمل الصور؛ وحينئذٍ يقع لهم اللبس الذي وقع لهم بدعائك، وهو معنى ‏{‏ولو جعلناه‏}‏ أي مطلوبَهم ‏{‏ملكاً‏}‏ أي يمكن في مجاري العادات في هذه الدار رؤيتهم له وبقاؤهم بعد رؤيته ‏{‏لجعلناه رجلاً‏}‏ أي في صورة رجل، ولكنه عبر بذلك إشارة إلى تمام اللبس حتى أنه لا يشك أحد يراه في كونه رجلاً، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في بعض الأوقات على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فإذا رآه بعض الصحابة رضي الله عنهم لم يشك أنه دحية رضي الله عنه ‏{‏و‏}‏ لو جعلناه رجلاً ‏{‏للبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ أي لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطونه على أنفسهم وعلى غيرهم في قولهم‏:‏ إن الرسالة لا تصح من البشر، فلو كان هذا الذي يقول‏:‏ إنه رسول رسولاً لكان ملكاً، فوقع اللبس عليهم بأنه لما كان هذا الذي يقول‏:‏ إنه رسول، ملكاً كان رجلاً، ويجوز أن يقرر ذلك على وجه آخر، وهو أن يكون ‏{‏ولو نزلنا‏}‏ في حيز ‏{‏كانوا عنها معرضين‏}‏، أي أعرضوا عنا لو نزلناها عليك في غير قرطاس، ولو نزلنا عليك من السماء كتاباً في قرطاس فجعلنا لهم في ذلك بين حس البصر واللمس لأعرضوا، وقال الذين أبَّدْنا كفرَهم عناداً ومكابرة‏:‏ ما هذا إلاّ سحر ظاهر، ويكون ‏{‏وقالوا‏}‏ معطوفاً على ‏{‏لقال الذين كفروا‏}‏ ويكون ذلك قبل اقتراحهم لذلك بما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء بقوله

‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏- إلى آخرها، فيكون إخباراً بمغيب‏.‏

ولما قطع الرجاء لهداية من حكم بشقاوته، وكان طلبهم لإنزال الملك ونحوه إنما هو على سبيل التعنت والاستهزاء، وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم غاية المشقة، التفتت النفس إلى الإراحة منهم وتوقعته لما تقدم من مظاهر العظمة، فأخبره أنه فاعل ذلك في سياق متكفل بتسليته، وأن ذلك لم يزل سنته فيمن فعل فعلهم، فقال- عاطفاً على قوله ‏{‏فسوف يأتيهم أنباؤا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 5‏]‏-‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي هذا منهم إنما هو استهزاء بك ‏{‏ولقد استهزئ‏}‏ أي أوقع الهزء وأوجد من الأمم، وبني للمفعول لأن المنكي الاستهزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه كان يقع لهم ذلك من الأعلى والأدنى ‏{‏برسل‏}‏‏.‏

ولما كان القرب في الزمن في مثل هذا مما يسلي، وكان كل من الاستهزاء والإرسال لم يستغرق الزمن، أدخل الجار فاقل‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ فأهلكنا من هزأ بهم، وهو معنى ‏{‏فحاق‏}‏ أي فأحاط ‏{‏بالذين سخروا منهم‏}‏ أي من أولئك الرسل ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي من العذاب الذي كانوا يتوعدون به، وكان سبباً لهزئهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما علم الله تعالى أنهم يقولون في جواب هذا‏:‏ إن هذا إلا أساطير الأولين، أمره صلى الله عليه وسلم بعد ما مضى من التعجيب من كونهم لم ينظروا بقلوبهم أو أبصارهم مصارع الماضين في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ أن يأمرهم بأن يشاهدوا مصارع من تمكن في قلوبهم علم أنهم أهلكوا بمثل تكذيبهم من قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ليغنيهم ذلك عن مشاهدة ما اقترحوا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا‏}‏ أي أوقعوا السير للاعتبار ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم ‏{‏في الأرض‏}‏- الآية، وهي كالدليل على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ولما كان السياق للتهديد بالتحذير من مثل أخذ الأمم الماضية، وكان قد سلف أنه لا تقدمهم عن آجالهم، أمهلهم في النظر فإنه أقوى في التهديد، وأدل على القدرة، وأدعى إلى النصفة ولا سيما والسورة من أوائل القرآن نزولاً وأوائله ترتيباً فقال‏:‏ ‏{‏ثم انظروا‏}‏ وأشار إلى أن هذا أهل لأن يسأل عنه بقوله‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المكذبين *‏}‏ أي أنعموا النظر وبالغوا في التفكر وأطيلوا التدبر إذا رأيتم آثار المعذبين لأجل تكذيب الرسل، فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار وقوي الاستبصار، وذلك إشارة إلى أن الأمر في غاية الانكشاف، فكلما طال الفكر فيه ازداد ظهوراً‏.‏

ولما أمرهم سبحانه بالسير، سألهم هل يرون في سيرهم وتطوافهم وجولانهم واعتسافهم شيئاً لغير الله‏؟‏ تذكيراً لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولاً وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانياً، استعطافاً لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته، وتقبيحاً لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره‏.‏ فقال مقرراً لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد، ومبكتاً بسفههم وشدة جهلهم وعمههم‏:‏ ‏{‏قل لمن‏}‏ ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود ‏{‏ما في السماوات والأرض‏}‏‏.‏

ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة، أشار إلى ذلك بقوله معرضاً عن انتظار جوابهم توبيخاً لهم بعدم النصفة التي يدعونها‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلماً ولا كفوء له، لا لغيره، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك، لا سيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسن أن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان، فكان الإقرار بن ضروري، لا خلاف فيه‏.‏

ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسنة لذيذة طيبة شهية، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته، وكان ذلك أهلاً لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان، قال دالاً على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفاً‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ أي وعد وعداً هو كالمكتوب الذي ختم، وأكد غاية التأكيد، أو كتب حيث أراد سبحانه‏.‏

ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال‏:‏ ‏{‏على نفسه الرحمة‏}‏ أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات‏.‏

ولما كان ذلك مطمعاً للظالم البطر، ومعجباً محيراً مؤسفاً للمظلوم المنكسر، قال محذراً مرحباً مبشراً ملتفتاً إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالاً على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار، فيكون قادراً على الإعادة، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالماً بجميع المعلومات، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع‏:‏ ‏{‏ليجمعنكم‏}‏ أي والله محشورين شيئاً فشيئاً ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ للعدل بين جميع العباد كائناً ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية‏.‏

ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق‏:‏ الشقي والسعيد القريب والبعيد، كان كأنه قيل‏:‏ فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به، فقال جواباً‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم ‏{‏فهم‏}‏ أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد ‏{‏لا يؤمنون *‏}‏ فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى‏:‏ إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم‏.‏

ولما استنارت الأدلة استنارة الشمس وانتصبت البراهين حتى لم يبق أصلاً نوع لبس، عم بالخبر عما تقدم مما يشاهدونه وغيره، فقال ذاكراً الزمان بعد المكان، وقدمه لأنه أظهر، والمعلم الكامل هو الذي يبدأ بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، فتم بذلك الخبر عن الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ أي وحده ‏{‏ما سكن‏}‏ أي حل وتحيز وحصل ‏{‏في الليل والنهار‏}‏ أي ما من شأنه أن يسكن فيهما وإن كان متحركاً، ولكنه عبر بذلك دون التحرك لأنها دار الموت، ودخل في ذلك النور والظلمة اللذان أشرك بهما من أشرك‏.‏

ولما دل ما مضى على القدرة التامة، وانقسم إلى متحرك وساكن، وكانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، دل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏السميع‏}‏ أي البالغ السمع لكل متحرك ‏{‏العليم *‏}‏ أي العام العلم بالبصر والسمع وغيرهما بكل متحرك وبكل ساكن من أقوالكم وأفعالكم وغيرهما، فلا تطمعوا في أن يترك شيء من مجازاتكم، والعليم هنا أبلغ من البصير، وذلك مثل ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 76‏]‏ وهو ترجمة قوله‏:‏ ‏{‏يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز تعالى ذلك في قالب الأمر له صلى الله عليه وسلم بالإنكار على نفسه، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة، فكأنهم قالوا‏:‏ فهل من سبيل إلى المواقة‏؟‏ فقيل‏:‏ لا إلا باتخاذكم إلهي ولياً، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين، وبتطمعكم في اتخاذي أندادكم أولياء، وهذا ما لا يكون أبداً، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل إلى أندادهم بوجه‏.‏

ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً، لا إلى اتخاذ الولي، أولى «غير» الهمزة فقال‏:‏ ‏{‏أغير الله‏}‏ أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة ‏{‏أتخذ‏}‏ أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ ‏{‏ولياً‏}‏ أي أعبده لكونه يلي جميع أموري، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال‏:‏ ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أن الله ‏{‏يطعم‏}‏ أي يرزق كل من سواه مما فيه روح‏.‏

ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم، لا كون ذلك من مطعم معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ولا يطعم‏}‏ أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه، والمعنى أن المنافع من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه، وهو سبحانه الغني على الإطلاق، وهذا التفات إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏ وتعريض بكل ما عبد من دون الله ولا سيما الأصنام، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها الدواب والطيور، فمعلوم أنها لا تطعم ولا تطعم روى الدارمي في أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال‏:‏ «حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال‏:‏ فمنعني أن آكل الزبد مخافتها، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم» ومولاه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، واختلف فيه فقيل‏:‏ هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وقيل‏:‏ قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم‏.‏ وقيل‏:‏ ابنه عبد الله بن السائب- والله أعلم؛ وله عن أبي رجاء- هو العطاردي وهو مخضرم- قال‏:‏ «كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجراً حسناً عبدناه، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة من رمل، ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها فنحلبها على الكثبة حتى نرويها، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان» وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها، وسيأتي التصريح بذلك في قوله‏:‏

‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ المستوفي في مضماره ‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏ وفي الآية كلها التفات إلى قوله أول السورة ‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ وقوله في التي قبلها ‏{‏ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 81‏]‏ في أمثالها مما فيه تولي الكفار لغير خالقهم سبحانه وتعالى، هذا لو لم يرد أمر من قبل الخالق كان النظر السديد كافياً في التنزه عنه، كما كنت قبل النبوة لا ألتفت إلى أصنامكم ولا أعتبر للعبادة شيئاً من أنصابكم، فكيف وقد أمرت بذلك‏!‏ وهو معنى ‏{‏قل إني أمرت‏}‏ أي من جهة من له الأمر، ولا أمر إلا له وهو من تقدم أن له كل شيء، وهو الله وحده ‏{‏أن أكون‏}‏ أي بقلبي وقالبي ‏{‏أول من أسلم‏}‏ في الرتبة مطلقاً، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة‏.‏

ولما كان الأمر بالإسلام نهياً عن الشرك، لم يكتف به، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدعو إحسانه وكرمه إلى ولايته، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته، في قوله عطفاً على ‏{‏قل‏}‏ على وجه التأكيد‏:‏ ‏{‏ولا تكونن‏}‏ أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً ‏{‏من المشركين *‏}‏ أي في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته منهم به، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة إليهم والكون في عدادهم «من تشبه بقوم فهو منهم»‏.‏

ولما كان فعل المنهي قد لا يعذب عليه، قال معلماً بأن المخالفة في هذا من أبلغ المخالفات، فصاحبها مستحق لأعظم الانتقام، وكل ذلك فطماً لهم عن الطمع فيه، وأكده لذلك ولإنكارهم مضمونه‏:‏ ‏{‏قل إني‏}‏ ولما كان المقام للخوف، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏أخاف إن عصيت‏}‏ أي شيء مما تريدون مني أن أوافقكم فيه بما أمرت به أو نهيت عنه ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ ‏{‏عذاب يوم‏}‏ ولما كان عظم الظرف بعظم مظروفه قال‏:‏ ‏{‏عظيم *‏}‏‏.‏

ولما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم، فقال واصفاً لذلك العذاب مبيناً أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته، لا زائلة وكذا النعمة، هكذا شأن ذلك اليوم ‏{‏من يصرف عنه‏}‏ أي ذلك العذاب؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم، قال‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به ‏{‏فقد رحمه‏}‏ أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم ‏{‏وذلك‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الفوز‏}‏ أي الظفر بالمطلوب ‏{‏المبين *‏}‏ أي الظاهر جداً، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه، وذلك هو العذاب العظيم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن يصرف عنك ذلك العذاب فقد قرت عينك، عطف عليه دليلاً آخر لأنه لا يجوز في العقل أن يتخذ غيره ولياً، فقال معمماً للحكم في ذلك العذاب وغيره مبيناً أنه لا مخلص لمن أوقع به‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان المقام للترهيب، قدم قوله‏:‏ ‏{‏بضر‏}‏ أي هنا أو هناك ‏{‏فلا كاشف له‏}‏ أصلاً بوجه من الوجوه ‏{‏إلا هو‏}‏ أي لأنه لا كفوء له، فهو قادر على إيقاعه، ولا يقدر غيره على دفاعه، لأنه على كل شيء قدير ‏{‏وإن يمسسك بخير‏}‏ أي في أي وقت أراد‏.‏

ولما كان القياس على الأول موجباً لأن يكون الجزاء‏:‏ فلا مانع له، كان وصفه من صفة قوله ‏{‏فهو على كل شيء‏}‏ أي من ذلك وغيره ‏{‏قدير *‏}‏ ولا يقدر غيره على منعه، منبهاً على أن رحمته سبحانه سبقت غضبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما كانت الجملتان من الاحتباك، فأفادتا بما ذكر وما دل عليه المذكور مما حذف أنه تعالى غالب على أمره، قال مصرحاً بذلك‏:‏ ‏{‏وهو القاهر‏}‏ أي الذي يعمل مراده كله ويمنع غيره مراده إن شاء، وصور قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله‏:‏ ‏{‏فوق عباده‏}‏ وكل ما سواه عبد؛ ولما كان في القهر ما يكون مذموماً، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الحكيم‏}‏ فلا يوصل أثر القهر بإيقاع المكروه إلا لمستحق، وأتم المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏الخبير *‏}‏ أي بما يستحق كل شيء، فتمت الأدلة على عظيم سلطانه وأنه لا فاعل غيره‏.‏

ولما ختم بصفتي الحكمة والخبرة، كان كأنه قيل‏:‏ فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك- على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم، ونهاك عن الشرك لنصدقك- من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما‏؟‏ فقال‏:‏ قد فعل، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال- أو يقال‏:‏ إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذاناً بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذاراً به لئلا يقولوا إذا حل بهم‏:‏ إنه لم يأتنا نذير، فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أيها الرسول لهم ‏{‏أي شيء أكبر‏}‏ أي أعظم وأجل ‏{‏شهادة‏}‏ فإن أنصفوا وقالوا‏:‏ الله‏!‏ فقل‏:‏ هو الذي يشهد لي، كما قال في النساء «لكن الله يشهد بما أنزل إليك» ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل، فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة أكبر شهادة‏.‏

ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا‏:‏ إنه لَكذلك، ولكن هلم شهادته‏!‏ قال‏:‏ ‏{‏شهيد‏}‏ أي هو أبلغ شاهد يشهد ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ أي بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها؛ ولما قرر أنه أعظم شهيد، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها، نبه على أعظمها، لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق، فقال ذاكراً لفائدته في سياق تهديد متكفل بغثبات الرسالة وإثبات الوحدانية، وقدم الأول لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته، عاطفاً على جملة «شهيد» بانياً للمفعول، تنبيهاً على أن الفاعل معروف للإعجاز، وبني للفاعل في السواد‏:‏ ‏{‏وأوحي إلي‏}‏ وحقق الموحى به وشخّصه بقوله‏:‏ ‏{‏هذا القرآن‏}‏ ولما كان في سياق التهديد قال مقتصراً على ما يلائمه‏:‏ ‏{‏لأنذركم‏}‏ أي أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك ‏{‏به ومن‏}‏ أي وأنذر به كل من ‏{‏بلغ‏}‏ أي بلغه، قال الفراء‏:‏ والعرب تضمر الهاء في صلات «الذي» و«من» و«ما»‏.‏

وقال البخاري في آخر الصحيح‏:‏ ‏{‏لأنذركم به‏}‏ يعني أهل مكة، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه‏.‏ وقال عبد الرزاق في تفسيره‏:‏ أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله‏.‏ وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل بعث إلى الجن- ومن خطه نقلتُ‏:‏ الكتاب والسنة ناطقان بذلك، والإجماع قائم عليه، لا خلاف بين المسلمين فيه؛ ثم أسند الإجماع إلى أبي طالب القضاعي وأبي عمر بن عبد البر في التمهيد وأبي محمد بن حزم في كتاب الفِصَل وغيرهم ثم قال‏:‏ أما الكتاب فآيات إحداها ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس- فذكره، وقال السدي‏:‏ من بلغ القرآن فهو له نذير، وقال ابن زيد‏:‏ من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره‏.‏ وهذه كلها أقوال متفقة المعنى، وقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الكلام وأن ينذر بالقرآن كل من بلغه، ولم يخص إنساً ولا جناً من أهل التكليف، ولا خلاف أن الجن مكلفون- انتهى‏.‏ وسيأتي مما ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة عليهم السلام، فالمعنى‏:‏ فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح، ومن كذب فليأت بسورة من مثله، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب، وهو شهادة الله لي بالصدق، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، بل استمرت على مرّ الأيام وكرّ الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏ ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أما وجد الله رسولاً غيرك‏؟‏ ما نرى أحداً يصدقك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فأنزلها الله‏.‏

ولما لم يبق لمتعنت شبهة، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته- وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مُرَقَّى إليه، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى أنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان- مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيماً لشأنه وتفخيماً لمقامه وتنبيهاً لهم على أن يعدوا عن الشرك فقال‏:‏ أئنكم لتشهدون أن مع الله‏}‏ أي الذي حاز جميع العظمة ‏{‏آلهة‏}‏‏.‏

ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه سبحانه إله كما قالوا حين سمعوه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يا الله يا رحمن» كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحِجْر وآخر سبحان، صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع فقال‏:‏ ‏{‏أخرى‏}‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ إنهم ليقولون ذلك، فماذا يقال لهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏قل لا أشهد‏}‏ أي معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل، ولو كان حقاً لشهدت به‏.‏

ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه، اجتثَّه من أصله وبرمته بقوله‏:‏ ‏{‏قل إنما هو‏}‏ أي الإله ‏{‏إله واحد‏}‏ وهو الله الذي لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء، لأنه واحد لا كفوء له، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس‏.‏

ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم، صرح به في قوله مؤكداً في جملة اسمية‏:‏ ‏{‏وإنني بريء مما تشركون *‏}‏ أي الآن وفي مستقبل الزمان إبعاداً من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئاً منها ولياً، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد، ولقد امتثل صلى الله عليه وسلم الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن، فلما استراح عن حرب قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية، وهو سنة ست من الهجرة، وأعلمه الله تعالى أن ذلك فتح مبين، أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده، وكان أكثر عند منصرفه من ذلك الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار، وينذرهم دار البوار، قال أهل السير‏:‏ خرج صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها- على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقال‏:‏ «أيها الناس‏!‏ إن الله بعثني رحمة وكافة، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم» وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال‏:‏ «أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون»

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ بنو إسرائيل- على عيسى ابن مريم عليهما السلام، فقال المهاجرون‏:‏ يا رسول الله‏!‏ والله لا نختلف عليك في شيء أبداً، فمرنا وابعثنا، فسألوه‏:‏ كيف اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام‏؟‏ قال‏:‏ دعاهم إلى الذي وفي رواية لمثل الذي- دعوتكم إليه، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام أن ابعث إلى مقدس الأرض، فبعث الحواريون- فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل- قال ابن عبد الحكم‏:‏ وقال‏:‏ لا أحسن كلام من تبعثني إليه- فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى الله عز وجل، فأصبح كل رجل- وقال ابن عبد الحكم‏:‏ فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم- يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها‏.‏ فقال عيسى عليه السلام‏:‏ هذا أمر قد عزم الله عليه فامضوا له‏.‏ وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس‏:‏ إن المكان الذي جمع فيه عيسى عليه السلام الحواريين وأنفذهم إلى النواحي قرية بناحية طبرية تسمى الكرسي‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه وجد كتاباً فيه ذكر من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البلدان وملوك العرب والعجم وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال‏:‏ فبعث به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه- فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكان من بعث عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض بطرس الحواري ومعه بولس- وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين- إلى رومية، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس إلى قرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى أقسوس قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس، وابن ثلما إلى الأعرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا ولم يكن من الحواريين، جُعل مكان يودس- انتهى‏.‏ كذا رأيت في نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة لابن هشام، وكذا في مختصرها للامام جمال الدين محمد بن المكرم الأنصاري عدد رسله وأسمائهم، وفي أخرهم‏:‏ قوله‏:‏ مكان يودس، ولم يتقدم ليودس ذكر، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا، ولعله أصح، وقد جمعت ما تفرق من ألفاظها، قال في إنجيل متى ما نصه- ومعظم السياق له‏:‏ ودعا يعني عيسى عليه السلام- تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي أنجيل مرقس‏:‏ وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين، وفي إنجيل لوقا‏:‏ وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي، وكان ساهراً في صلاة الله، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر؛ وقال في موضع آخر‏:‏ ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون الأوجاع؛ وهذه أسماء الاثني عشر الرسل‏:‏ سمعان المسمى بطرس- ونسبه في موضع من إنجيل متى‏:‏ ابن يونا- وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه قال في إنجيل مرقس‏:‏ وسماهما باسمي بوانرجس اللذين ابنا الرعد- وفيلبس وبرثولوماوس، وتوما ومتى الشعار، ويعقوب بن حلفي، ولباوس الذي يدعى تداوس، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا‏:‏ تدى، وفي إنجيل لوقا بدلهما‏:‏ يهوذا بن يعقوب، ثم اتفقوا‏:‏ وسمعان القاناني، وقال في إنجيل لوقا‏:‏ المدعو الغيور، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه- أي دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها- هؤلاء الاثنا عشر الرسل الذين أرسلهم يسوع- وفي إنجيل مرقس‏:‏ ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة- قائلاً‏:‏ لا تسلكوا طريق الأمم، ولا تدخلوا مدينة السامرة، وانطلقوا خاصة إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوأ‏:‏ قد اقتربت ملكوت السماوات، اشفوا المرضى، أقيموا الموتى، طهروا البرص، أخرجوا الشياطين، مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا، لا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا همياناً في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى، والفاعل مستحق طعامه، وفي إنجيل مرقس‏:‏ وأمرهم أن لا يأخذوا في الطريق غير عصى فقط ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقهم إلا نعالاً في أرجلهم ولا يلبسوا قميصين؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ وقال لهم‏:‏ لا تحملوا في الطريق شيئاً، لا عصى ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة، ولا يكون لكم ثوبان، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا فيها عمن يستحقكم، وكونوا هناك حتى تخرجوا، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه، فإن كان البيت مستحقاً لسلامكم فهو يحل عليه، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم؛ وفي إنجيل مرقس‏:‏ وقال لهم‏:‏ أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا منه، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم، الحق أقول لكم‏!‏ إن الأرض سدوم وعامورا راحة في يوم الدين أكثر من تلك المدينة، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب، كونوا حكماء كالحية وودعاء كالحمام، احذروا من الناس، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل، وفي مجامعهم يضربونكم، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم- وفي إنجيل مرقس‏:‏ شهادة عليهم وعلى كل الأمم، ينبغي أولاً أن يكرزوا بالإنجيل- فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون- وفي إنجيل مرقس‏:‏ ولا ماذا تجيبون- فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم- وفي إنجيل مرقس‏:‏ لكن روح القدس يتكلم فيم- وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم، وتكونون مبغوضين من الكل من أجل اسمي، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص، فإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى، الحق الحق أقول لكم‏!‏ إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان، ليس تلميذ أفضل من معلمه، ولا عبد أفضل من سيده، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته‏!‏ فلا تخافوهم، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم، الذي أقول لكم في الظلمة قولوه أنتم في النور، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح، ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم، أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم، وأنتم فشعور رؤوسكم كلها محصاة، فلا تخافوا، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة، لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض سلامة، لكن سيفاً، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة من أمها، والعروس من حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أباً أو أماً أكثر مني فما يستحقني، ومن وجد نفسه فليهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها، ومن قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني، ومن يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يأخذ صديقاً باسم صديق فأجر صديق يأخذ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ- الحق أقول لكم- إن أجره لا يضيع، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر، انتقل من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم؛ وفي إنجيل مرقس‏:‏ فلما خرجوا- يعني الرسل- كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة يدهنونهم بالزيت فيشفون؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ ومن بعد هذا أيضاً ميز الرب سبعين آخرين ويرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمَعَ أن يأتيه، وقال لهم‏:‏ إن الحصاد كثير والفعلة قليلون، أطلبوا من رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده؛ وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان للاثني عشر، فإنه قال قبل ذكر عددهم‏:‏ فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر- إلى آخر ما ذكرته عنه أولاً، فيجمع بأنه قاله للفريقين- رجع إلى السياق الأول‏:‏ اذهبوا، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب، لا تحملوا همياناً ولا حذاء ولا مزوداً ولا تقبلوا أحداً في الطريق، وأي بيت دخلتموه فقولوا أولاً‏:‏ سلام لأهل هذا البيت، فإن كان هناك ابن سلامكم فإن سلامكم يحل عليه، وإلا فسلامكم راجع إليكم، وكونوا في ذلك البيت، كلوا واشربوا من عندهم، فإن الفاعل مستحق أجرته، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم، واشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم‏:‏ قد قربت ملكوت الله، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا من شوارعها وقولوا لهم‏:‏ نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت، أقول لكم‏:‏ إن سدوم في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة، الويل لك يا كورزين‏!‏ والويل لك يا بيت صيدا‏!‏ لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كنَّ فيكما جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم، وأنت يا كفرناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم، من سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني؛ فرجع السبعون بفرح قائلين‏:‏ يا رب‏!‏ الشياطين باسمك تخضع لنا يا رب فقال لهم‏:‏ قد رأيت الشيطان سقط من السماء مثل البرق، وهو ذا قد أعطيتكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال‏:‏ طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم‏!‏ أقول لكم‏:‏ إن أنبياء كثيرين وملوكاً اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا؛ وفي إنجيل متى- بعد ما ادعى اليهود صلبه- أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر- وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه- في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع، وكلمهم قائلاً‏:‏ أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم؛ وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكّتهم لقلة إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم‏:‏ امضوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها، فمن آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدان، وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم‏.‏

ويشربون السم القاتل فلا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون، ومن بعد ما كلمهم يسوع ارتفع إلى السماء، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر وكلاماً كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه‏:‏ وفيما هم يتكلمون وقف يسوع في وسطهم وقال لهم‏:‏ السلام لكم، أنا هو‏!‏ لا تخافوا، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً فقال‏:‏ ما بالكم تضطربون‏؟‏ ولِمَ تأتي الأفكار في قلوبكم‏؟‏ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو‏!‏ جسّوني وانظروا، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي؛ ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه، وإذا هم غير مصدقين من الفرح، قال لهم‏:‏ أعندكم ههنا ما يؤكل‏؟‏ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل، فأخذ قدامهم وأكل، وأخذ الباقي وأعطاهم، وقال لهم‏:‏ هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ كنت معكم، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا، وقال لهم‏:‏ اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا لقوة من العلى، ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، فرفع يديه وباركهم، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء أمامهم، فرجعوا إلى يروشليم بفرح عظيم، وكانوا في كل حين يسبحون ويباركون الله- انتهى ما نقلته من الأناجيل‏.‏ وما كان فيه من لفظ يوهم نقصاً ما فقد تقدم في أول آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم، فهو مؤول وقد نسخ؛ وقال الإمام محيي السنة البغوي في تفسير آل عمران فيما نقله عن وهب‏:‏ فلما كان بعد سبعة أيام- أي من ادعاء اليهود لصلبه- قال الله تعالى لعيسى عليه السلام‏:‏ اهبط على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى، فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، فجمعت له الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة، ثم رفعه الله إليه، وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه السلام إليهم، فذلك قوله تعالى ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ هذا ما ذكر من شأن رسل عيسى عليه السلام أنهم كانوا دعاة، وأما رسل النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا مبلغين لكتبه صلى الله عليه وسلم، فمن قبل ذلك كان حظه من الله، ومن أبى كان جوابه السيف الماحق لدولته- كما ذكرته مستوفى في شرحي لنظمي للسيرة وهو مذكور في فتوح البلاد؛ ولما بعث صلى الله عليه وسلم رسله اتخذ لأجل مكاتبة الملوك الخاتم، أخرج أبو يعلى في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر- وفي رواية‏:‏ وأكيدر دومة وإلى كل جبار- يدعوهم إلى الله وأخرج الشيخان في صحيحهما- وهذا لفظ مسلم- عن أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه قال‏:‏ لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم- وفي رواية‏:‏ إلى العجم- قالوا‏:‏ إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقشه «محمد رسول الله»‏.‏

فبعث دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم وأمره أن يوصل الكتاب إلى عظيم بصرى ليوصله إليه، فعظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وقرأه ووضعه على وسادة وعلم صدقه صلى الله عليه وسلم وأنه سيغلب على ملكه، فجمع الروم وأمرهم بالإسلام فأبوا، فخافهم فقال‏:‏ إنما أردت أن أجربكم، ثم لم يقدر الله له الإسلام، فأزال الله حكمه عن الشام وكثير من الروم على يدي أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ثم عن كثير من الروم أيضاً على يد من بعدهم، ومكن بها الإسلام، لكن أثابه الله على تعظيم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن أبقى ملكه في أطراف بلاده إلى الآن، وبلغني أن الكتاب محفوظ عندهم إلى هذا الزمان؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني- وقال القضاعي‏:‏ المنذر بن أبي شمر عامل قيصر على تخوم الشام- ثم إلى جبلة بن الأيهم الغساني، فأما الحارث أو المنذر فغضب من الكتاب وهمّ بالمسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتله، زعم فنهاه عن ذلك قيصر، فأكرم شجاعاً ورده وأسلم حاجبه مري الرومي بما عرف من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «باد ملك الحارث، وفاز مري» فقلّ ما لبث الحارث حتى مات، وولي بعده في مكانه جبلة بن الأيهم الغساني، وهو آخر ملوك غسان على نواحي الشام، فرد إليه النبي صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب رضي الله عنه، فرد على النبي صلى الله عليه وسلم رداً جميلاً ولم يسلم، واستمر يتربص حتى أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه لما رأى من ظهور نور الإسلام وخمود نار الشرك، ثم إنه ارتد- ولحق ببلاد الروم- في لطمة أريد أن يقتص منه فيها، فسبحان الفاعل لما يشاء‏!‏ وبعث عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى ملك الفرس، وأمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم البحرين ليوصله إليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بدأ باسمه الشريف مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، فرجع عبد الله، فلما سكن غضب الخبيث التمسه فلم يجده فأرسل في طلبه فسبق الطلب، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تمزيق الكتاب، دعا على كسرى أن يمزق كل ممزق، فأجاب الله دعوته فشتت شملهم وقطع وصلهم على يد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قتل يزدجرد آخر ملوكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه، فأصبح ملك الأكاسرة كأمس الدابر، وعم بلادهم الإسلام وظهرت بها كلمة الإيمان، بل تجاوز الإسلام ملكهم إلى ما وراء النهر وإلى بلاد الخطا‏.‏

وبعث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية، فعلم من صدق النبي صلى الله عليه وسلم ما علمه قيصر من الإنجيل، فأكرم الرسول وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ورد رداً جميلاً ولم يسلم، فأباد الله ملكه على يد عمرو بن العاص أمير لعمر رضي الله عنهما‏.‏ وبعث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي فآمن رضي الله عنه وقال‏:‏ أشهد أنه النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل عليهم السلام‏.‏

وأن العيان ليس بأشفى من الخبر، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا كثيرة، وأرسل ابنه بإسلامه في سبعين من الحبشة، وقال في كتابه‏:‏ وإني لا أملك إلا نفسي ومن آمن بك من قومي، وإن أحببت أن آتيك يا رسول الله فعلتُ؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي واستغفر له؛ وبعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وإلى أسيحت مرزبان هجر بكتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام أو الجزية، وأرض البحرين من بلاد العرب، لكن كان الفرس قد غلبوا عليها، وبها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم فأسلم المنذر وأسيحت وجميع من هناك من العرب وبعض العجم، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على عمله؛ وبعث سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكان عاملاً لقيصر على قومه، فقرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورد رداً دون رد، فصادف أن قدم عليه راهب من دمشق، فأخبره أنه لم يجب إلى الإسلام، فقال‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ ضننت بملكي، قال الراهب‏:‏ لو تبعته لأقرك والخير لك في اتباعه، فإنه النبي صلى الله عليه وسلم، بشر به عيسى عليه السلام، قال هوذة للراهب‏:‏ فما لك لا تتبعه‏؟‏ فقال‏:‏ أجدني أحسده وأحب الخمر، فكتب هوذة كتاباً وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية مكانه ذلك، وشعر به قومه فأتوه فهددوه، فرد الرسول واستمر على نصرانيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إليه سليط‏:‏

«باد هوذة وباد ما في يده» ‏!‏ فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة جاءه جبرئيل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي»، فكان كذلك كما هو مشهور من أمر مسيلمة الكذاب، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن، فلما بلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال الحارث‏:‏ قد كان هذا النبي عرض نفسه عليّ فخطئت عنه، وكان ذخراً لمن صار إليه، وسأنظر، وتباطأ به الحال إلى أن أسلم عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سنة الوفود، وكاتب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ وبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، فتوقفا واضطرب رأيهما، ثم عزم الله لهما على الرشد فقال جيفر‏:‏ إنه والله قد دلني على هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي أنه لا يأمر بخير إلاّ كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يفجر، وأنه يوفى بالعهد وينجز الوعد، ولا يزال يطع على سر قوم يساوي فيه أهله، وإني أشهد أنه رسول الله، وأسلم أخوه أيضاً، وكتبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهما، فقال خيراً وأثنى خيراً، وكان في سير هؤلاء الرسل لعمري غير ما ذكر أحاديث عجائب وأقاصيص غرائب من دلائل النبوة وأعلام الرسالة، خشيت من ذكرها الإطالة وأن تمل وإن لم يكن فيها ما يقتضي ملاله، وقد شفيت في شرحي لنظمي للسيرة باستيفائها القليل في ترتيب جميل ونظم أسلوبه لعمري جليل، هؤلاء رسل البشر، وأما الرسل من الجن فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 29‏]‏ قال‏:‏ كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم قال الهيثمي‏:‏ وفي سنده النضر أبو عمر وهو متروك، ويؤيد عموم هذه الآية في تناولها الملائكة عليهم السلام قوله تعالى ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ وإذا تأملت سياق الآيات التي بعدها مع آخر السورة التي قبلها قطعت بذلك

‏{‏لينذر من كان حياً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏، ‏{‏إنما تنذر من اتبع الذكر‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏ إذ هم من جملة العالمين وممن بلغه القرآن وممن هو حي وممن اتبع الذكر، والخطاب بالإنذار وارد مورد التغليب، إذ الإنس والجن أهل له، فانتفى ما يقال‏:‏ إن الملائكة في غاية الخوف من الله تعالى مع عصمتهم فليسوا ممن يخوف، ويزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 29‏]‏ ولا إنذار أعظم من ذلك، وإن عيسى عليه السلام من هذه الأمة وممن شملته الآيات الدالة على عموم الرسالة بغير شك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «والذي نفسي بيده‏!‏ لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي» أخرجه الإمام أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب عن جابر رضي الله عنه، ومذهب أهل السنة أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، وقد ثبتت رسالته إلى الأفضل المعصوم بالفعل لعيسى، وبالتعليق بالحياة بموسى عليه السلام، وقد أخذ الله سبحانه ميثاق النبيين كلهم عليهم السلام إن أدركوه ليؤمنن به، وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف الخلق وأكملهم- بالإنذار في غير آية، فمهما أول به ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم قيل مثله في حقهم عليهم السلام، ومما يرفع النزاع ويدفع تعلل المتعلل بالإنذار قوله تعالى ‏{‏لتنذر به وذكرى للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ فخذل مفعول «تنذر» دال على عموم رسالته، وتعليق الذكرى بالمؤمنين مدخل لهم بلا ريب لأنهم من رؤوسهم- عليهم السلام، وقوله تعالى ‏{‏لتبشر به المتقين‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏ إلى غيرها من الآيات، فيكون عموم رسالته لهم زيادة شرف له، وهو واضح، وزيادة شرف لهم بحمل أنفسهم على طاعته والتقيد بما حده لهم من أعمال ملته طاعة لله تعالى زيادة في أجورهم ورفعة درجاتهم، وذلك مثل ما قال أبو حيان في قوله تعالى ‏{‏فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏‏:‏ إن في الأمر له بذلك مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال؛ وقال القاضي عياض في الفصل السابع من الباب الأول من القسم الأول من الشفا في قوله تعالى ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ قال المفسرون‏:‏ أخذ الله الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به، وبعضد ذلك ما قال في أول الباب الأول‏:‏ وحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبرئيل عليه السلام‏:‏ «هل أصابك من هذه الرحمة المذكورة في قوله تعالى ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ شيء‏؟‏ قال نعم‏!‏ كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله ‏{‏ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 20، 21‏]‏» وروى مسلم في كتاب الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«فضلت على الأنبياء بست‏:‏ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» وحمل من حمل الخلق على الناس- للرواية التي فيها «إلى الناس» تحكم، بل العكس أولى لمطابقة الآيات، وقد خرج من هذا العموم من لا يعقل بالدليل العقلي، فبقي غيرهم داخلاً في اللفظ، لا يحل لأحد أن يخرج منه أحداً منهم إلا بنص صريح ودلالة قاطعة ترفع النزاع، وقال عياض في الباب الثالث من القسم الأول‏:‏ وذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان- فذكر المعراج وسماع الأذان من وراء الحجاب ثم قال‏:‏ ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه، فأمّ بأهل السماء فيهم آدم ونوح- انتهى‏.‏ وروى عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان الرجل بأرض قيّ فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد الماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه» قال المنذري‏:‏ القيّ- بكسر القاف وتشديد الياء، وهي الأرض القفر‏.‏ وروى مالك والستة إلا الترمذي وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قال الإمام ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏ فقولوا آمين»-وفي رواية إذا أمن الإمام فأمنوا- فإنه من وافق تأمينه- تأمين الملائكة- وفي رواية‏:‏ من وافق قوله قول الملائكة- غفر له ما تقدم من ذنبه‏.‏ وفي رواية في الصحيح‏:‏ «إذا قال أحدكم في الصلاة‏:‏ آمين، وقالت الملائكة في السماء‏:‏ آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم له من ذنبه» وفي رواية لأبي يعلى‏:‏ إذا قال الإمام ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏ قال الذين خلفه‏:‏ آمين، التقت من أهل السماء وأهل الأرض آمين، غفر للعبد ما تقدم من ذنبه‏.‏ وللشيخين عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا‏:‏ اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»؛ وفي رواية‏:‏ فإذا وافق قول أهل السماء قول أهل الأرض غفر له ما تقدم من ذنبه؛ في أشكال ذلك مما يؤذن بائتمام الملائكة بأئمتنا، وذلك ظاهر في التقيد بشرعنا؛ وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم- وجزم ابن معين والذهلي بصحته- عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة» وأدل من جميع ما مضى ما روى مالك والشيخان وأبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»؛ وفي رواية‏:‏ «فإذا قعد الإمام طويت الصحف»؛ وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد‏:‏ فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر‏.‏ فإن تركهم لكتابة الناس وإقبالهم على الاستماع دليل واضح على الائتمام، بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة‏:‏ أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» قال الحليمي في الرابع من شعب الإيمان في الجواب عما أورد على قوله‏:‏ ‏{‏لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 87‏]‏ من أن التخصيص بالإنس والجن لا يمنع قدرة الملائكة على المعارضة ما نصه‏:‏ وأما الملائكة فلم يتحدوا على ذلك لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم، فسواء كانوا قادرين على مثله أو عاجزين، وهم عندنا عاجزون؛ وقال في الخامس عشر في أن من أنواع تعظيمه الصلاة عليه فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل ذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه، فأمر الله عباده لنبيهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم عن شريعته تتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والتسليم عليه، ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أول وأحق- هذا نصه في الموضعين، ولم يذكر لذلك دليلاً، ونسب الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع مثل ذلك إلى البيهقي في الشعب فإنه قال‏:‏ وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، وفي الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه، قال‏:‏ وفي تفسير الإمام الرازي والبرهان النسفي حكاية الإجماع في تفسير الآية الثانية- أي ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ أنه لم يكن رسولاً إليهم- انتهى‏.‏ وهو شهادة نفي كما ترى، لا ينهض بما ذكرته من النصوص على أن الحليمي لم يقل بذلك إلا لقوله بأن لملائكة أفضل من الأنبياء- كما نقله عنه الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين والشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد وغيرهما، ولم يوافقه على ذلك أحد من أهل السنة إلا القاضي ابو بكر الباقلاني، فكما لم يوافق على الأصل لا يوافق على الفرع، وأما البيهقي فإنما نقله عن الحليمي وسكوته عليه لا يوجب القطع برضاه، قال الزركشي في شرح جمع الجوامع‏:‏ وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم وقال لهم‏:‏ الملائكة ما دخلت في دعوته، فقاموا عليه، وقد ذكر الإمام فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجاً بقوله تعالى ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏‏:‏ والملائكة داخلون في هذا العموم- انتهى‏.‏

وهذا يقدح فيما نقل عنه من نقل الإجماع، وعلى تقدير صحته ففيه أمور، أما أولاً فالإجماع لا يرجع إلا إلى أهل الاطلاع على المنقولات من حفاظ الآثار وأقاويل السلف فيه، وأما ثانياً فإنه نقل يحتمل التصحيح والتضعيف، لأنه بطرقه احتمال أن يكون نقل عمن لا يعتد به، أو يكون أخذه عن أحد مذاكرة وأحسن الظن به، أو حصل له سهو، ونحو ذلك، فلا وثوق إلا بعد معرفة المنقول عنه وسند النقل والاعتضاد بما يوجب الثقة ليقاوم هذه الظواهر الكثيرة، وأما ثالثاً فإنه سيأتي عن الإمام تقي الدين السبكي أن بعض المفسرين قال بالإرسال إلى الملائكة، وق الإمام ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ زين الدين العراقي في شرحه لجمع الجوامع‏:‏ وأما كونه مبعوثاً إلى الخلق أجمعين فالمراد المكلف منهم، وهذا يتناول الإنس والجن والملائكة، فأما الأولان فبالإجماع، وأما الملائكة فمحل خلاف فأين الإجماع‏!‏ هذا على تقدير صحة هذا النقل وأنى لمدعي ذلك به فإني راجعت تفسير الإمام للآية المذكورة فلم أجد فيه نقل الإجماع، وإنما قال‏:‏ ثم قالوا‏:‏ هذه الآية تدل على أحكام‏:‏ الأول أن العالم كل ما سوى الله، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا نبئنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة، فوجب أن ينفى كونه رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً، وبطل قول من قال‏:‏ إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض، الثاني أن لفظ ‏{‏العالمين‏}‏ يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى المكلفين إلى يوم القيامة، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل- هذا لفظه في أكثر النسخ، وفي بعضها‏:‏ لكنا أجمعنا- بدل‏:‏ نبئنا- وهي غير صريحة في إجماع الأمة كما ترى، ولم يعين الموضع الذي أحال عليه في النسخ الأخرى- فليطلب من مظانه ويتأمل، وأما النسفي فمختصر له- والله الموفق؛ ثم رأيت في خطبة كتاب الإصابة في أسماء الصحابة لشيخنا حافظ عصره أبي الفضل بن حجر في تعريف الصحابي‏:‏ وقد نقل الإمام فخر الدين في أسرار التنزيل الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مرسلاً إلى الملائكة، ونوزع في هذا النقل، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم واحتج بأشياء يطول شرحها- انتهى‏.‏

والعجب من الرازي في نقل هذا الذي لا يوجد لغيره مع أنه قال في أسرار التنزيل في أواخر الفصل الثاني من الباب الثالث في الاستدلال بخلق الآدمي على وجود الخالق‏:‏ الوجه الرابع- أي في تكريم بني آدم- أنه جعل أباهم رسولاً إلى الملائكة حيث قال ‏{‏أنبئهم باسمائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏ وقد تقرر أن كل كرامة كانت لنبي من الأنبياء فلنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم منها، وقال في تفسيره الكبير في ‏{‏وعلم آدم الأسماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏‏:‏ ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من يوجه التحذير إليهم من الملائكة، لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول لبعثة إبراهيم إلى لوط عليهما السلام- انتهى‏.‏ وأنت خبير بأمر عيسى عليه السلام بعد نزوله من السماء، والحاصل أن رسالته صلى الله عليه وسلم إليهم صلوات الله عليهم- رتبة فاضلة ودرجة عالية كاملة جائزة له، لائقة بمنصبه، مطابقة لما ورد من القواطع لعموم رسالته وشمول دعوته، وقد دلت على حيازته لها ظواهر الكتاب والسنة مع أنه لا يلزم من إثباتها له إشكال في الدين ولا محذور في الاعتقاد، فليس لنا التجريء على نفيها إلا بقاطع كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة في آية الأنعام ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ قال‏:‏ فاحتملت معنيين‏:‏ أحدهما أن لا يحرم على طاعم يطعمه أبداً إلا ما استثنى الله عز وجل، وهذا المعنى الذي إذا وُوجه رجل مخاطباً به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم عليه غير ما سمى الله عز وجل محرماً، وما كان هكذا فهو الذي يقال له أظهر المعاني وأعمها وأغلبها والذي لو احتملت الآية معاني سواه- كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة للنبي صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- تدل على معنى غيره مما تحتمله الآية، فنقول‏:‏ هذا معنى ما أراد الله عزّ وجلّ، ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما، ولا يقال بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن تكون أريد بها ذلك الخاص، فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية- انتهى‏.‏ وشرحه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى فقال‏:‏ ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر‏:‏ هذا منسوخ أو مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر، برهانه‏:‏

‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وقال ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه- انتهى‏.‏ وقال أهل الأصول‏:‏ إن الظاهر ما دل على المعنى دلالة ظنية أي راجحة، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصيح- أو لما نظن دليلاً وليس في الواقع بدليل- فاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل، قال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في الكلام على أن رؤية الله تعالى في الآخرة هل هي بالعين أو بالقلب‏:‏ والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين، ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلاّ لضرورة- انتهى، وقال الإمام تقي الدين السبكي في جواب السؤال عن الرسالة إلى الجن الذي تقدم في أول الكلام على هذه الآية أني رأيته بخطه‏:‏ الآية العاشرة‏:‏ ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ قال المفسرون كلهم في تفسيرها‏:‏ للجن والإنس، وقال بعضهم‏:‏ والملائكة‏.‏ الثانية عشرة ‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ قال المفسرون‏:‏ معناها‏:‏ إلا إرسالاً عاماً شاملاً لجميع الناس، أي ليس بخاص ببعض الناس، فمقصود الآية نفي الخصوص وإثبات العموم، ولا مفهوم لها فيما وراء الناس، بل قوتها في العموم يقتضي عدم الخصوصية فيهم وحينئذ يشمل الجن، ولو كان مقصود الآية حصر رسالته في الناس لقال‏:‏ وما أرسلناك إلا إلى الناس، فإن كلمة «إلا» تدخل على ما يقصد الحصر فيه، فلما أدخلها على ‏{‏كافة‏}‏ دل على أنه المقصود بالحصر، ويبقى قوله ‏{‏للناس‏}‏ لا مفهوم له، أما أولاً فلأنه مفهوم قلب وأما ثانياً فلأنه لا يقصد بالكلام، أما ثالثاً فلأنه قد قيل‏:‏ إن ‏{‏الناس‏}‏ يشمل الإنس والجن، أي على القول بأنه مشتق من النوس، وهو التحرك، وهو على هذا شامل للملائكة أيضاً، وممن صرح من أهل اللغة بأن ‏{‏الناس‏}‏ يكون من الإنس ومن الجن الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب، قال السبكي‏:‏ السابعة عشرة

‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 87‏]‏ الثامنة عشرة ‏{‏إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏ ونحوهما كقوله ‏{‏لتنذر من كان حياً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏ وكذا قوله ‏{‏هدى للمتقين‏}‏، وأما السنة فأحاديث‏:‏ الأول حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه «وأرسلت إلى الخلق كافة»، «إلى الخلق» عام يشمل الجن بلا شك، ولا يرد على هذا أنه ورد في روايات هذا الحديث من طرق أخرى في صحيح البخاري وغيره «الناس» موضع «الخلق» لأنا نقول‏:‏ ذلك من رواية جابر، وهذا من رواية أبي هريرة؛ فلعلهما حديثان، وفي رواية الخلق زيادة معنى على الناس، فيجب الأخذ به إذ لا تعارض بينهما، ثم جوز أن يكون من روى «الناس» روى بالمعنى فلم يوف به، قال‏:‏ وهذا الحديث يؤيد قول من قال‏:‏ إنه مرسل إلى الملائكة ولا يستنكر هذا، فقد يكون ليلة الإسراء يسمع من الله كلاماً فبلغه لهم في السماء أو لبعضهم، وبذلك يصح أنه مرسل إليهم، ولا يلزم من كونه مرسلاً إليهم من حيث الجملة أن يلزمهم جميعُ الفروع التي تضمنتها شريعته، فقد يكون مرسلاً إليهم في بعض الأحكام أو في بعض الأشياء التي ليست بأحكام، أو يكون يحصل لهم بسماع القرآن زيادةُ إيمان، ولهذا جاء فيمن قرأ سورة الكهف‏:‏ فنزلت عليه مثل الظلة، ثم قال في أثناء كلام‏:‏ بخلاف الملائكة، لا يلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم، بل يحتمل ذلك ويحتمل في شيء خاص كما أشرنا إليه فيما قبل- انتهى‏.‏ قلت‏:‏ ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطّابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده- والله الموفق؛ ومن تجرأ على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه، كان ضعيف العقل مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم الدين، ولو كان حاكياً لما قيل على وجه الرضى به، فما كل ما يُعلَم يقال، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، ولعمري‏!‏ إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته الأمة بالقبول، وطرب عليه في المحافل والجموع‏:‏

دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

ولما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة، وهو التوراة والإنجيل ‏{‏يعرفونه‏}‏ أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز، فهم يعرفون هذا الحق ‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏ أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها، وقد وضعتموهم موضع الوثوق، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي، فما لكم لا تتابعونهم‏!‏ لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء‏.‏

ولما كان أكثرهم يخفون ذلك ولا يشهدون به، قال جواباً لمن يسأل عنهم‏:‏ ‏{‏الذين خسروا‏}‏ أي منهم، ولكنه حذفها للتعميم ‏{‏أنفسهم فهم‏}‏ أي بسبب ذلك ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي لما سبق لهم من القضاء بالشقاء الذي خسروا به أنفسهم بالعدول عما دعت إليه الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة، ومن خسر نفسه فهو لا يؤمن فكيف يشهد‏!‏ فقد بينت هذه الجملة أن من لا يشهد منهم فهو في الحقيقة ميت أو موات، لأن من ماتت نفسه كذلك، بل هم أشقى منه، فلقد أداهم ذلك الشقاء إلى أن حرفوا كتابهم وأخفوا كثيراً مما يشهد لي بالنبوة، فكانوا أظلم الخلق بالكذب في كتاب الله للتكذيب لرسل الله‏.‏